فصل: من فوائد الشعراوي في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {مِنْ عَرَفَاتٍ}:

مَوْضِعٌ مَعْلُومُ الْحُدُودِ، مَشْهُورٌ عَظِيمُ الْقَدْرِ.
رَوَى التِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ عَنْ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «الْحَجُّ عَرَفَةَ ثَلَاثًا، مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ قَبْلَ أَنْ يَطْلُعَ الْفَجْرُ فَقَدْ أَدْرَكَ».
وَرَوَيَا وَمَعَهُمَا أَبُو دَاوُد أَنَّ عُرْوَةَ بْنَ مُضَرِّسٍ الطَّائِيَّ قَالَ: «أَتَيْت النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَوْقِفِ يَعْنِي بِجَمْعٍ فَقُلْت: جِئْت يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ، أَكَلَلْت مَطِيَّتِي، وَأَتْعَبْت نَفْسِي، وَاَللَّهِ مَا تَرَكْت مِنْ جَبَلٍ إلَّا وَقَفْت عَلَيْهِ، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلَاةَ، وَأَتَى عَرَفَةَ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ، وَقَضَى تَفَثَهُ».
وَهَذَا صَحِيحٌ يَلْزَمُ الْبُخَارِيَّ وَمُسْلِمًا إخْرَاجُهُ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي شَرْحِ الصَّحِيحِ، وَسَتَرَوْنَهُ هُنَالِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: جواز عموم الوقوف بعرفة كلها:

هَذَا الْقَوْلُ بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ يَقْتَضِي جَوَازَ عُمُومِ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ كُلِّهَا وَإِجْزَاءَهُ، وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَقَفْت هَاهُنَا وَعَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ. وَنَحَرْت هَاهُنَا وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ، وَوَقَفْت هَاهُنَا وَجَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَرَوَى النَّسَائِيّ، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ عَلَى قُزَحَ، فَقَالَ: هَذَا قُزَحُ، وَهَذَا الْمَوْقِفُ، وَجَمْعٌ، كُلُّهَا مَوْقِفٌ.
وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّ قُبَّةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضُرِبَتْ لَهُ بِنَمِرَةَ، فَنَزَلَ بِهَا حَتَّى إذَا زَاغَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ، فَرُحِلَتْ لَهُ، فَأَتَى بَطْنَ الْوَادِي فَخَطَبَ النَّاسَ...» الْحَدِيثَ.
وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ».

.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: وقت الإفاضة:

لَمْ يُبَيِّنْ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَقْتَ الْإِفَاضَةِ، وَبَيَّنَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفِعْلِهِ، فَإِنَّهُ وَقَفَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ قَلِيلًا، وَذَهَبَتْ الصُّفْرَةُ، وَغَابَ الْقُرْصُ.
خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ؛ فَكَانَ بَيَانًا لِقَوْلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَقَالَتْ الْمَالِكِيَّةُ: الْفَرْضُ الْوُقُوفُ بِاللَّيْلِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ: الْوُقُوفُ بِالنَّهَارِ.
وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ: لَيْلًا أَوْ نَهَارًا عَلَى حَدِيثِ عُرْوَةَ.
وَقَدْ مَهَّدْنَاهُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ وَغَيْرِهَا.

.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ}:

رَوَى جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ فِي الصَّحِيحِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَفَ بِعَرَفَةَ حَتَّى غَابَتْ الشَّمْسُ، ثُمَّ دَفَعَ فَأَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى فِيهَا الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِأَذَانٍ وَاحِدٍ وَإِقَامَتَيْنِ لَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا، ثُمَّ اضْطَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَصَلَّى الْفَجْرَ حِينَ تَبَيَّنَ الصُّبْحَ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ، ثُمَّ رَكِبَ الْقَصْوَاءَ حَتَّى أَتَى الْمَشْعَرَ الْحَرَامَ فَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَدَعَا وَكَبَّرَ وَهَلَّلَ وَوَحَّدَ، فَلَمْ يَزَلْ وَاقِفًا حَتَّى أَسْفَرَ جِدًّا، ثُمَّ دَفَعَ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ. خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.

.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: قَالَ قَوْمٌ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}:

إشَارَةٌ إلَى الصَّلَاةِ بِهِ دُونَ أَنْ تُفْعَلَ فِي الطَّرِيقِ؛ فَإِنْ الْوَقْتُ أَخَذَهُ بِعَرَفَةَ وَتَمَادَى عَلَيْهِ الْوُجُوبُ فِي الطَّرِيقِ، فَكَانَ مِنْ حَقِّهِ أَنْ يُصَلِّيَ، وَكَذَلِكَ قَالَ أُسَامَةُ: الصَّلَاةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ أَمَامَك حَتَّى نَزَلَ الْمُزْدَلِفَةَ فَجَمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِيهَا»، خَرَّجَهُ الْأَئِمَّةُ، حَتَّى قَالَ عُلَمَاؤُنَا وَأَبُو حَنِيفَةَ: إنْ صَلَّاهَا قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ تَجُزْ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الصَّلَاةُ أَمَامَك»، فَجَعَلَهُ لَهَا حَدًّا.

.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: المبيت بمزدلفة:

قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَ الْمَبِيتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ رُكْنًا فِي الْحَجِّ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ: هُوَ رُكْنٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}؛ وَهَذَا لَا يَصْلُحُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ الْمَبِيتِ، وَإِنَّمَا فِيهِ مُجَرَّدُ الذِّكْرِ.
الثَّانِي: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيَّنَ لِعُرْوَةِ بْنِ مُضَرِّسٍ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ إجْزَاءَ الْحَجِّ مَعَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ دُونَ الْمَبِيتِ بِالْمُزْدَلِفَةِ.

.الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: في بطن محسر:

الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ كُلُّهُ مَوْقِفٌ إلَّا بَطْنَ مُحَسِّرٍ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «جَمْعٌ كُلُّهَا مَوْقِفُ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ».
رَوَاهُ مَالِكٌ بَلَاغًا، وَأَسْنَدَهُ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ: أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ، وَمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ، وَارْتَفِعُوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَمِنًى كُلُّهَا مَنْحَرٌ وَفِجَاجُ مَكَّةَ كُلُّهَا مَنْحَرٌ».

.قال السعدي:

وفي قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} دلالة على أمور:
أحدها: الوقوف بعرفة، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج، فالإفاضة من عرفات، لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني: الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام، وهو المزدلفة، وذلك أيضا معروف، يكون ليلة النحر بائتا بها، وبعد صلاة الفجر، يقف في المزدلفة داعيا، حتى يسفر جدا، ويدخل في ذكر الله عنده، إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث: أن الوقوف بمزدلفة، متأخر عن الوقوف بعرفة، كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع، والخامس: أن عرفات ومزدلفة، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها، وإظهارها.
السادس: أن مزدلفة في الحرم، كما قيده بالحرام.
السابع: أن عرفة في الحل، كما هو مفهوم التقييد بمزدلفة اهـ.

.فائدة في الربط بين الابتغاء من فضل الله ومناسك الحج المختلفة:

قد يتساءل أحد عن الرّابطة بين قوله تعالى: {أن تبتغوا فضلا من ربكم} ومسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثمّ إلى مِنى الّتي وردت الآية الشريفة منضمّة بعضها إلى بعض.
يمكن أن تكون الرّابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ السعي المادي والاقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال مناسك الحجّ، أو أنّ حركة وانتقال الحجّاج من مكّة إلى عرفات ومنها إلى المواقف الأخرى يستلزم عادةً نفقات وخدمات كبيرة، فلو كان كلّ نوع من العلم والكسب في هذه الأيّام محرّم على الحجّاج فمن الواضح أنّهم سيقعون في حرج ومشقّة، فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمّة ومتتالية.
أو يقال: إن المفهوم منها هو أنّ الآية تحذّر الحجّاج أن لا يُنسيكم العمل والكسب وسائر الفعاليّات الاقتصادية ذكر الله والتوجّه إليه وإدراك عظمته في هذه المواقف الشريفة. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ}.
{ليس عليكم جناح} أي لا إثم عليكم ولا حرج {أن تبتغوا فضلًا من ربكم} أي أن تتكسبوا في الحج وهو نسك عبادي، والمكسب الذي يأتي فيه هو فضل من الله. وقديمًا كانوا يقولون: فيه حاج، وفي داج، واحدة بالحاء وواحدة بالدال، فالداج هو الذي يذهب إلى الأراضي المقدسة للتجارة فقط، ونقول له: لا مانع أن تذهب لتحج وتتاجر؛ لأنك ستيسر أمرًا؛ لأننا إن منعناه فمن الذي يقوم بأمر الحجيج؟
ولماذا قال الحق: {تبتغوا فضلًا من ربكم} ولم يقل رزقًا؟. لقد أوضح الحق في الآية التي قبلها: ألا تذهبوا إلا ومعكم زادكم. إذن أنت لا تريد زادًا بعملك هذا، أي لا تذهب إلى الحج لتأكل من التجارة، إنما تذهب ومعك زادك وما تأتي به هو زائد عن حاجتك ويكون فضلا من الله سبحانه وتعالى، وهو جل شأنه يريد منك ألا يكون في عملك المباح حرج؛ فنفي الجناح عنه؛ فأنت قد جئت ومعك الأكل والشرب ويكفيك أن تأخذ الربح المعقول، فلا يكون فيه شائبة ظلم كالاستغلال لحاجة الحجيج، لذلك أسماه {فضلًا} يعني أمرا زائدًا عن الحاجة.
وكل ابتغاء الرزق وابتغاء الفضل لا يصح أن يغيب عن ذهن مبتغي الرزق والفضل، فكله من عند الله. إياك أن تقول: قوة أسباب، وإياك أن تقول: ذكاء أو احتياط، فلا شيء من ذلك كله؛ لأن الرزق كله من الله هو فضل من الله. ولا ضرر عليك أن تبتغي الفضل من الرب؛ لأنه هو الخالق وهو المربي. ونحن مربوبون له، فلا غضاضة أن تطلب الفضل من الله. ثم يقول الحق بعد ذلك: {فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام}. وأنت حين تملأ كأسا عن آخرها فهي تفيض بالزائد على جوانبها، إذن فالفائض معناه شيء افترق عن الموجود للزيادة.
قوله: {فإذا أفضتم من عرفات} تدل على أن الله قد حكم بأن عرفات ستمتلئ امتلاء، وكل من يخرج منها كأنه فائض عن العدد المحدد لها. وهذا حكم من الله في الحج. وأنت إذا ما شهدت المشهد كتبه الله للمسلمين جميعًا. إن شاء الله سترى هذه المسألة، فكأن إناءً قد امتلأ، وذلك يفيض منه. ولا تدري من أين يأتي الحجيج ولا إلى أين يذهبون. ومن ينظر من يطوفون بالبيت يظن أنهم كتل بشرية، وكذلك إذا فاض الحجيج في مساء يوم عرفة يخيل إليك عندما تنظر إليهم أنه لا فارق بينهم؛ ولذلك يقال: سالت عليه شعاب الحي كأنها سيل.
وقال الشاعر:
سالت عليه شعاب الحي حين دعا ** أصحابه بوجوه كالدنانير

وقال آخر:
ولما قضينا من منى كل حاجة ** ومسح بالأركان من هو ماسح

أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا ** وسالت بأعناق المطي الأباطح

أي كأنه سيل متدفق، هكذا تماما تكون الإفاضة من عرفات. وعندما تتأمل الناس المتوجهين إلى مزدلفة تتعجب أين كان كل هذا الجمع؟ ترى الوديان يسير فيها الناس والمركبات كأنهم السيل ولا تستطيع أن تفرق شخصًا من مجموعة، وفي موقف الحجيج إفاضتان: إفاضة من عرفات، ثم إفاضة ثانية بينتها الآية التي بعدها يقول سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (199)}. اهـ.

.أسئلة وأجوبة:

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ففيه سؤالات:

.السؤال الأول: لما قال: {اذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} فلم قال مرة أخرى {واذكروه} وما الفائدة في هذا التكرير؟

والجواب من وجوه أحدها: أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولًا: {اذكروا الله} أمر بالذكر، وقوله ثانيًا: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها، لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس وثانيها: أنه تعالى أمر بالذكر أولًا، ثم قال ثانيًا: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام، فكأنه تعالى قال: إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وقال في الأضاحي: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] وثالثها: أن قوله أولًا: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أمر بالذكر باللسان وقوله ثانيًا: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أمر بالذكر بالقلب، وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان أحدهما: ذكر هو ضد النسيان والثاني: الذكر بالقول، فما هو خلاف النسيان قوله: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة: 200] {واذكروا الله في أَيَّامٍ معدودات} [البقرة: 203] فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول: محمول على الذكر باللسان والثاني: على الذكر بالقلب، فإن بهما يحصل تمام العبودية ورابعها: قال ابن الأنباري: معنى قوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته وخامسها: يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكرًا بعد ذكر، كما هداكم هداية بعد هداية، ويرجع حاصله إلى قوله: {يا أيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْرًا كَثِيرًا} [الأحزاب: 41] وسادسها: أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام، وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة، ثم قال بعده: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة، فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة، وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام، بل عن من سواه فيصير مستغرقًا في نور جلاله وصمديته، ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكرًا له ومشتغلًا بالثناء عليه، وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر عنه الخيال، ومن أراد أن يصل إليه، فليكن من الواصلين إلى العين، دون السامعين للأثر ورابعها: أن يكون المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى، والمراد بالذكر الثاني: الاشتغال بشكر نعمائه، والشكر مشتمل أيضًا على الذكر، فصح أن يسمى الشكر ذكرًا، والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية، فقال: {كَمَا هَدَاكُمْ} والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر وثامنها: أنه تعالى لما قال: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة، يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} يعني اذكروه على كل حال، وفي كل مكان، لأن هذا الذكر إنما وجب شكرًا على هدايته، فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة، فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمرًا غير منقطع وتاسعها: أن قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك، ثم قوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} والمراد منه التهليل والتسبيح.